لم يعد خافياً على أحد أن الأميركيين الذين يساندون إسرائيل ويستميتون في الدفاع عنها، يتمتعون بنفوذ قوي وسطوة مهمة في السياسة الأميركية، وتمتد أذرعهم إلى العديد من القطاعات الاقتصادية والإعلامية في الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى قوتهم يمتاز هؤلاء أيضاً بتنظيمهم العالي وإيمانهم العميق بقضايا إسرائيل، فضلاً عن نشاطهم المتواصل على امتداد المدن والولايات الأميركية. وكلما لمست المنظمات المناصرة لإسرائيل أن مصالح الدولة العبرية في خطر، هبت إلى الدفاع عنها والتصدي الشرس لخصومها. وهم في سبيل ذلك يتبرعون بأموال طائلة للمرشحين السياسيين، لاسيما السياسيين الواعدوين المحتمل اضطلاعهم بدور فاعل في السياسية الأميركية واكتسابهم النفوذ في مرحلة من المراحل. لذا ليس غريباً أن تعمل تلك المنظمات خلال حملة الانتخابات الرئاسية على رصد تصريحات المرشحين وتعقب هفواتهم، تماماً كما يحرص المرشحون أنفسهم على ضمان أصوات اليهود ودعم المنظمات المساندة لإسرائيل. وفي هذا السياق، تبرز إحدى المناسبات ذات الأهمية البالغة في الحملات الانتخابية للمرشحين متمثلة في المؤتمر السنوي للسياسات الذي تعقده اللجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة المعروفة اختصاراً باسم "إيباك"، بحيث تعد من أقوى منظمات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة وأكثرها نفوذاً وتغلغلاً في السياسة الداخلية الأميركية. وقد حرص المرشحون الثلاثة في الانتخابات الأميركية جون ماكين وباراك أوباما وهيلاري كلينتون (قبل أن تتأكد خسارتها في السباق الانتخابي) على الإدلاء بخطابات أمام أعضاء "إيباك" في الرابع من شهر يونيو الجاري. وانطوى الأمر على أهمية خاصة بالنسبة للمرشح أوباما، لاسيما أن منافسيْه ماكين وهيلاري حسما علاقتهما الوطيدة بإسرائيل ودفاعهما المستميت عن مصالحها، فضلاً عن الإشاعات والشكوك التي أحاطت بمسيرة أوباما ومدى دعمه لإسرائيل. وفي هذا الإطار، حاول مساعدو "ماكين" النيل من مصداقية "أوباما" وإثارة الشكوك حول أصوله المسلمة، مستغلين في ذلك جهل الأميركيين ومخاوفهم. وهكذا تمت الإشارة إلى الاسم الثلاثي لأوباما، "حسين"، والإيحاء بأنه مسلم يتعاطف مع الأيديولوجيات المتطرفة للمتشددين، كما أشاروا إلى موقف أوباما الداعي إلى التحاور مع إيران، ووصفوه بالضعف، لأنه يهدد مصالح إسرائيل والولايات المتحدة، وغيرها من الاتهامات والمزاعم الواهية الرامية إلى التشهير بأوباما وتشويه صورته في أعين الأميركيين وحرمانه من أصواتهم. لذا عندما وقف أوباما أمام لجنة "إيباك" في 4 يونيو الجاري كان عليه أن يطمئن جمهوره بإعلانه الصريح والواضح لمساندته إسرائيل وتبديده لجميع الشكوك التي حاول خصماه إلصاقها به، وذلك بإظهار حرصه على أمن إسرائيل وسلامتها بهدف تأمين الصوت اليهودي في الانتخابات والتودد إلى منظمات الضغط اليهودية الناشطة في الولايات المتحدة، لكنه في الوقت نفسه كان واضحاً بشأن مواقفه في السياسة الخارجية، ولم يسعَ إلى تغييرها لمجرد الفوز بأصوات اليهود. والحقيقة أن إقامة التوازن الصعب والدقيق بين الدفاع عن مصالح إسرائيل والتمسك بتصوراته في السياسة الخارجية الأميركية التي كشف عنها طيلة حملته الانتخابية هي ما نجح فيه أوباما بامتياز، فقد التزم أثناء إلقاء خطابه أمام "إيباك" بالثوابت الأميركية، التي لا مفر منها لأي سياسي يطمح لدخول البيت الأبيض، بإعلان تأييده لإسرائيل، وفي الوقت نفسه التمسك بمواقفه المعلنة فيما يخص السياسة الخارجية مثل التحاور مع الخصوم وتأمين خروج مشرف من العراق. والحقيقة أنه لم يكن باستطاعة "أوباما" الخروج عن الخطاب التقليدي في الولايات المتحدة الذي ينصب فيه الساسة الأميركيون أنفسهم حماة لأمن إسرائيل، وإلا كان عرّض فرصة انتخابه للخطر. لكنه ذكر في خطابه أن "الفلسطينيين في حاجة إلى دولة متماسكة ومترابطة جغرافياً" في انتقاد واضح لسياسة إسرائيل الاستيطانية وبناء الطرق الخاصة باليهود في الضفة الغربية. وفيما يتعلق بأفكاره حول السياسة الخارجية الأميركية، كان "أوباما" واضحاً في معارضته لسياسة بوش التي يدعمها المرشح "الجمهوري" ماكين، لأنها في نظره جعلت أميركا وإسرائيل أقل أمناً وأكثر عرضة لهجمات انتقامية. وقد أشاد "أوباما" أيضاً بالانفتاح الإسرائيلي على سوريا وإجرائها لمفاوضات غير مباشرة معها، وهي السياسة التي تعارضها إدارة الرئيس بوش الداعية إلى مواجهة دمشق وعزلها، وانتقد "أوباما" قرار بوش بغزو العراق بسبب تداعياته السلبية على الولايات المتحدة والدولة اليهودية، وتعزيزه للنفوذ الإيراني في المنطقة، مشيراً إلى أن سياسات بوش في الشرق الأوسط هي التي أوصلت الرئيس أحمدي نجاد إلى السلطة في إيران. وأكد أوباما في معرض خطابه أن البديل الذي قدّمه ماكين مغلوط وخاطئ، لأنه يخير بين البقاء في العراق لأجل غير مسمى مع استمرار نشر القوات الأميركية وهو ما يدافع عنه، أو التحذير من الانسحاب وفسح المجال للمزيد من التغلغل الإيراني. أوباما من جانبه يقترح بديلاً آخر يتمثل في السعي إلى عدم امتلاك إيران للسلاح النووي، لكن باستخدام "دبلوماسية منضبطة دون فرض شروط مسبقة"، محيلاً إلى سياسة بوش التي ترفض التفاوض مع إيران دون تلبيتها لشروط ضيقة. وأوضح أوباما أنه سيعتمد على نفس النهج الصارم والمنضبط في الدبلوماسية الذي اتبعه رؤساء أميركيون سابقون، نافياً أن يكون التفاوض هو الغاية في حد ذاته كما اتهمه ماكين بذلك. وعندما صرح ماكين بأنه لا يوجد شيء لدى الولايات المتحدة يمكن أن تقدمه لإيران في حالة التفاوض أعلن أوباما أنه يمكن لأميركا رفع العقوبات الاقتصادية على إيران ومساعدتها على الاندماج الاقتصادي والسياسي في المجتمع الدولي مقابل تغيير سلوكها، مؤكداً أنه سيحتفظ دائماً بالخيار العسكري فوق الطاولة كحل اللحظة الأخيرة. ويبدو أن أوباما حرص على تفصيل سياسته تجاه إيران في مؤتمر "إيباك" ليضع حداً لانتقادات محتملة حول سياسته تلك، لكنه أيضاً عمل على إبراز اختلافه الواضح مع سياستيْ بوش وماكين، وهو ما فتح باب الأمل في الشرق الأوسط من أن أوباما سيعتمد مقاربة دبلوماسية للصراعات في المنطقة تبتعد عن الخيارات العسكرية والأحادية.